لست وحدك !!!

موضوع: لست وحدك !!! الجمعة يناير 29, 2010 7:45 pm

لست وحــــدك
بعث إلى أحد الأصدقاء المخلصين خطابا من بلاد الغربة يحكى لي فيه مأساته ، وما يقاسيه من ألم الغربة وشدة وطأتها عليه.
وكان هذا الخطاب صرخة صادقة تسمع ولا تقرأ ، نعم ؛ فهذا ما أحسست به في ثنايا الخطاب ، كنت أسمع لكل حرف منه عبرة ولكل جملة منه أنين ، ولكل سطر منه شكاية على حدة…
وكانت هذه السطور المتتالية من أعلى الخطاب لأسفله إنما هي مصائبه ومآسيه التي لاينفك من إحداها إلا وجد الأخرى تنتظره بشوق ولهفة…
وهذه الورقة البيضاء التي صيغت عليها تلك المأساة ما هي إلا نيته الطيبة وسريرته الصالحة ، لكن لم تغنى عنه شئ في أن يسطر عليها دراما مأساوية هي أبعد منالا أن يطمع في صياغتها أمثال محفوظ والعقاد أو حتى عبدالقدوس والسباعي.
ذلك لأن كاتبها هو أبرع من كتب بغير قلم ، وسطر بدون ورق …
ذلك الكاتب الذي لم يرعوى في نفاذ القصة فصلا بعد فصل وأبطالها أمام عينيه في ألمهم يترددون ،
ذلك هو الزمن.
وهذا الصديق ومن أول أيامه والزمن كفرسي رهان إلا أن الزمن حينا يصرعه صرعة لا أرى له بعدها حياة وبين الفينة والفينة أعلله قائلا:
تنكر لي الدهر ولم يدر أنني أعز وأحداث الزمان تهـــون
فبات يريني كيف اعتــداؤه وبت أريه الصبر كيف يكون
فكان ينفعل وتأخذه الشدة والعنف ويتعصب قائلا:
كأن أبى المظفر الأبيوردى قد انقطعت قوافيه عند هذه النون ، ونضب معينه سوى من هذين البيتين ، أو كأنك تبحث عن ضمادة تسع كل هذه الجراح فلم تجد.
فكنت أتهمه بالتشاؤم ويتهمني بالتفاؤل ، فأستغرب لهذا الاتهام الجميل فيعلله:
أن المرء إذا أعيته الحيل وفشل في طريقة ؛ترك بذل جهده وتمنى على الله الأماني …
وكانت حياته "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا."
وادعى التفاؤل ، والتفاؤل يكذبه ، ولو تجسد التفاؤل فصار إنسانا لكان أول عمل يعمله أن يقدم أمثالك لأقرب قسم شرطة بتهمة الكذب به والافتراء عليه.
فكنت أبتسم ولا أعقب…
وكانت آخر مرة ذكرت له قولي السابق بادرني قائلا:
ليس القول ما تقول ولكنه قول الشافعي:
أمطري لؤلؤا سماء سرانديب وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا
فقلت : صدقت ، وهكذا عهدتك و…
قال: ولكن ماذا عن آمالنا وأحلامنا التي قضينا عمرا في البحث عنها ، والجهاد في الحياة لتحقيق بعضا منها ، والطموحات التي رسمناها في عهد الصبا، كيف أتخلى عنها؟ كيف أتركها دون القيام ببعضها؟
أتعرف أن قديما قالوا أن قيمة أي إنسان ما يحسن وما يستطيع أن يفعله؟
أتعلم أنني لو تركت هذا الركام من أحلامي أكون قد تركت نفسي؟
أخذتني معك ياصديقى الذكريات ، ولكم أعجبني فيك هذه القوة النفسية وهذا العقل الوافر…
لكن ياصديقى لست وحدك في غربة ، فكلنا في غربة ، وأقساها غربة ، غربة في دارك ، تشعر بها وأنت على فراشك…
كأني بهم وقول الشاعر:
وكان بنو عمى يقولون: مرحبا فلما رأوني معسرا ، مات مرحب
الكل يتنكر لك ، كأن بينك وبينهم بحار من الدماء حالت دون الوصول إلى قلوبهم ، وتتسائل ما السبب؟
أي الذنوب أخذت بها ؟
أجابك الصدى ، ونطق العدم ، وأنت مازلت منتظرا منهم مجيب…
لست وحدك في الجراح والهموم
لست وحدك في الألم
وإن كان عندك أمل في الرجوع وانتهاء محنتك
فأين الأمل منا ونحن غير الموت مخلصا لا نأمل .
هكذا الحياة عند الضعفاء منا ، إذا تكالبت عليه الهموم ، وأبدى له الزمن نواجذه ، ورأى ألا خلاص برأيه الافن ونظرته الضيقة التي لا تتسع لترى ما في المحنة من منحة وما في البلاء من جائزة وما في المصيبة من صواب ؛ترى به استحقاق وقوع المصيبة وترى اللطف من خلال تبعاتها …
ليس الموت منقذا…
ليس الموت مخلصا…
فمن تكللت حياته بالموت بهذه الطريقة ، فعلى طريقة بعض المتصوفة دعنى أقول: هذا قبر العارف بالجهل أفشل الفاشلين ،ومحبط عزم السائرين ،وضمير الخيبة، من عدمت الدنيا خيره، واستطار في العالمين شؤمه ،وامتلأ قبره من ذله ، إنه العاجز أن يكون في صفوف الرجال ، والمتقاصر بهمته عن صغار الأعمال ، الذي دخلها وخرج منها ولم تشعر الأرض بوطأته ، ولا السماء باستعانته.

فعلا لست وحدك كلنا معا يدل بيد نبني مصر الغد